دلالات الألفاظ من حيث الظهور و الخفاء

 

دلالات الألفاظ من حيث الظهور و الخفاء

 

إن أي مكلف له فعل، و لهذا الفعل حكم، و هذا الحكم يعلم بدليل، و من الأدلة : الكتاب، والسنة،

واستنباط الدليل يحتاج إلى مستنبط (وهو المجتهد)، و يكون ذلك بطرق الاستنباط.

 

و بناء على ذلك، حصر علماء الأصولِ الكتابةَ في أصول الفقه في موضوعاتٍ أربعةٍ، هي: الأحكام، و الأدلة، و الاستنباط، و طرقه.

 

و لكن ما هي طرق الاستنباط؟ كيف يدل الحديث على الحكم؟ هناك أدلة يمكن الوقوف عليها بأدنى تأمل، مثلاً: قوله تعالى:

{أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]،

دل على الحكمِ دلالةً واضحة، و لكن قد يدل على الحكم دلالة فيها خفاء، و لا يمكن معرفتها إلا بمعرفة المجاز و نحوه.

 

من هُنَا، قَسَمَ العلماء اللفظ إلى قسمين:

* واضح الدلالة،

وخفي الدلالة على المعنى أو الحكم.

 

أولاً : القسم الواضحُ الدلالةِ

هو الذي يدل على الحكم أو المعنى بدون اجتهاد أو قرائن بأدنى تأمل.

ثانياً: القسم الخفي الدلالة

هو الذي يدل على الحكم أو المعنى دلالة لا يمكن التوصل إليها إلا باجتهاد أو قرائن.

 

هذا، و كلا القسمين ليسا على درجة واحدة من الوضوح أو الخفاء.

 

توضيح ما سبق:

 

توضيح القسم الأول (واضح الدلالة) :

- المثال الأول : قوله تعالى : {أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]،

دلالته دلالة واضحة تفهم و يمكن الوقوف عليها بأدنى تأمل بدون اجتهاد أو قرائن، لكن هذا الحكم الذي توصلنا إليه يدخله التخصيص، إذ هناك بُيُوْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، فلا نستطيع أن نقول أن جميع البيوع حلال من هذه الآية، و هي تقبل النسخ في عصر النبوة.

 

وهناك ألفاظ لا تقبل التخصيص كلفظ "ثلاثة" في قوله تعالى: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]،

فالفرق بينها و بين الآية السابقة - مع كون كل منهما واضح الدلالة- أن "ثلاثة" لا تقبل التخصيص و التأويل بخلاف "البيع"،

فكانت درجة الوضوح أقل فيما يقبل التخصيص مما لا يقبله.

 

- المثال الثاني :الآيات الدالة على وجوب الإيمان و تحريم الكفر، ومثلها الآياتُ التي تتعلق بالرذائل و الأخلاق ، كلها دلالتها واضحة تفهم بأدنى تأمل،

ولكن هذا الحكم الواضح هو في أعلى درجات الوضوح مما سبقه في لفظ "ثلاثة" و "أحل الله البيع"،

إذ أنه لا يقبل كلاً من التخصيص و التأويل و النسخ، بخلاف "ثلاثة" فتقبل النسخ، و "أحل الله البيع" تقبل التخصيص و النسخ.

 

ضابط الوضوح و درجته (معيار التفاوت) : قبول اللفظ للنسخ أو التخصيص وعدم قبوله.

 درجات واضح الدلالة :

1- الذي لا يحتمل النسخ و التخصيص و التأويل. ( وهو المحكم )، كما سيأتي لاحقاً.

2- الذي يحتمل النسخ، ولا يقبل التخصيص و لا التأويل. (وهو المفسّر)، كما سيأتي لاحقاً.

3- الذي يقبل التخصيص أو التأويل، و النسخ. (كالظاهر والنص)، كما سيأتي لاحقاً.

 

توضيح القسم الثاني (خفي الدلالة) :

 

- المثال الأول : قوله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]،

 

هذه الآية دلت دلالة واضحة على أن السارق (الذي أخذ مال الغير خفية مِنْ حِرْزٍ) تقطع يده، ومثله السارقة،

ولكن في الوقت ذاته، دلت دلالةً فيها خفاءٌ على حكم قطع يد "النشال" (الذي يأخذ أموال الناس عن يقظة)[1]، هل يعتبر من أفراد السراق حتى تقطع يده؟

 

الخفاء هنا في الخارج، في أفراد العام الذين يطبق عليهم الحد، فهنا نحتاج إلى اجتهاد لِنَرَى هل يدخل النشال في حكم السارق أم لا،

فمن الفقهاء : من قال تقطع يده لوجود معنى السرقة وزيادة، لأنه صار أشدَّ خُطُوْرَةٍ ممن يأخذ عن خفية،

ومنهم من قال : لا تقطع لعدم وجود معنى السرقة الاصطلاحي، وعند كل من أصحاب القولين لآية خفية الدلالة.

 

- المثال الثاني : قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] هذه الآية فيها خفاء في نفس الآية، ليس في الخارج، لأنه أشكل المراد علينا من لفظ "قروء"، لاحتماله أكثر من معنى،

هل المراد بـ(القُرْءِ) : الطُهْر أم الْحَيْضُ،

على خلاف المثال السابق، فالخفاء فيه كان في الأفراد ليس في نفس النَّص، ولكن الخفاء في كلا المثالين يزول بالاجتهاد (كما سيتبين لاحقاً الاجتهاد في دلالة القرء في قسم خفي الدلالة).

 

- المثال الثالث : الآيات التي في أوائل السور مثل "الـم" و "كهيعص"،

هذه ألفاظ دلت على معاني، لكن لم نتوصل إلى معناها، فلا يُطلب من المجتهد بيانُ معناها، حيث إن الشارع استأثر بعلمها، فهي في أشد درجات الخفاء.

 

- المثال الرابع : النصوص الدالة على وجوب إقامة الصلاة، ووجوب الحج.

فهذه دلت على أحكام فيه خفاء، والخفاء هنا راجع إلى ذات الصلاة أو الحج، حيث خفيت كيفية الصلاة والحج بنفس هذه النصوص، و لا يُزَالُ الخفاء منها، إلا ببيان من المُجمِل نفسه (الشارع)، بخلاف المثال الأول و الثاني، فإن الخفاء فيهما يزول بالاجتهاد.

 

مما سبق في هذا القسم، يتضح أمران

الأول : أن الخفاء على قسمين:

* خفاء في ذات النص أو اللفظ كما في "وأقيموا الصلاة" و"ثلاثة قروء"،

* وخفاءٌ في الأفراد/الخارج كما في "و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما".

 

الثاني: أن الخفاء على درجات:

1-  الذي يزال بالاجتهاد.

2- لا يزال إلا ببيان من المجمِل.

3- لا يزال الخفاء فيه، بل استأثر الشارع بعلمه.

 

تقسيم اللفظ باعتبار الوضوح (باعتبار وضوح المعنى المأخوذ من اللفظ)

ينقسم اللفظ – عند الحنفية- باعتبار الوضوح إلى أربعة أقسام:

1- الظاهر. 2- النص. 3- المفسّر. 4- المحكم.

أولاً : الظاهر:

- تعريفه: هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة، بحيث لا يتوقف فهمه على قرينة خارجية، بمعنى أنه يفهم المراد منه بأدنى تأمل و بدون اجتهاد و بدون قرائن، و كان هذا المعنى الذي وقفنا عليه ليس هو المراد الأصلي من سياق الكلام، بمعنى أنه ليس هو سبب نزول الآية، فهو مقصود تبعي، مع احتماله للتأويل و التخصيص و النسخ (في عهد الرسالة) .

- مثاله: قوله تعالى: " و أحل الله البيع و حرم الربا "، هذا لفظ دل دلالة واضحة على حكم لا يتوقف فهمه على قرينة خارجية، و لم يكن هو المقصود الأصلي من سياق الكلام، فعندما نزلت الآية لم يكن بيان جواز البيع و تحريم الربا هو المقصود منها، إنما الرد على من ادعى المساواة بين البيع و الربا، كما دل على ذلك ما جاء صدر الآية: " ذلك أنهم قالوا إنما البيع مثل الربا"، و هذا اللفظ يحتمل التخصيص و النسخ، فهو واضح و لكن درجته أقل من غيره في الوضوح.

ثانياً: النص:

- تعريفه: هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة بحيث لا يتوقف فهمه على قرينة خارجية، و كان المعنى/الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سياق الكلام، مع احتماله للتخصيص و النسخ و التأويل.

- مثاله: قوله تعالى: " و أحل الله البيع و حرم الربا "، فالآية دلت على معنى (بعبارتها /بلفظها/ بصيغتها)، و هو الرد على من ادعى المساواة بين البيع و الربا، و هذا المعنى هو المقصود الأصلي من سياق الكلام.

فالآية دلت على حكمين/معنيين، أحدهما أصالة و الآخر تبعاً.

فكان الفرق بين الظاهر و النص: أن المعنى المستفاد من اللفظ في الظاهر هو مقصود تبعي أما في النص هو مقصود أصلي.

ثالثاً: المفسَّر:

- تعريفه: هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة بحيث لا يتوقف فهمه على قرينة خارجية، و كان المعنى/الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، مع قبوله للنسخ، و عدم احتماله للتخصيص و التأويل.

- مثاله: لفظ " ثلاثة" في قوله تعالى: " و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فإن الآية دلت دلالة واضحة على أن المرأة المطلقة تعتد ثلاثة قروء، و هذا المعنى هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، و هذه الثلاثة لا تحتمل أن تكون سوى ثلاثة، فلا تحتمل التخصيص أو التأويل، إلا أنها كانت تقبل النسخ في عهد الرسالة.

أوجه اتفاق المفسر مع الظاهر:

أن كلاً منهما من أقسام واضح الدلالة، و يقبلان النسخ.

أوجه الاختلاف بينهما:

أن المفسر لا يقبل التخصيص و لا التأويل، بخلاف الظاهر فإنه يقبلهما، كما أن الحكم الذي وقفنا عليه في المفسر هو المقصود الأصلي من سياق الكلام بخلاف الظاهر.

 

رابعاً: المحكم:

- تعريفه: هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة واضحة بحيث لا يتوقف فهمه على قرينة خارجية، و كان المعنى/الحكم المستفاد منه هو المقصود الأصلي من سوق الكلام، و لا يحتمل النسخ و لا التخصيص و لا التأويل.

- مثاله: النصوص التي صُرِّح فيها بالتأبيد، و النصوص الدالة على وجوب الإيمان بالله و اليوم الآخر و غيرها من أمور العقيدة، فإنه لا يجوز الكفر و لا يرخص فيه حتى وقت الإكراه فإن الإيمان واجب في حقه، و لكن الذي يرخَّص له النطق به ، فكان مثل هذه النصوص محكمة لا تقبل التخصيص أو التأويل أو النسخ.

كيفية دلالة اللفظ على المعنى

 

إن اللفظ يدل على معناه بعدة طرق، إما بعبارته أو بإشارته أو باقتضائه، أو بدلالة النص، فكانت الدلالات أربعة:

- دلالة عبارة.

- دلالة إشارة.

- دلالة نص.

- دلالة اقتضاء.

 

أولاً: دلالة عبارة: (دلالة حسية)

هي دلالة اللفظ/ الكلام على حكم مقصود من مجيء النص أصالةً أو تبعاً.

-  مثال ذلك: قوله تعالى: " و أحل الله البيع و حرّم الربا "، فإن اللفظ دل بعبارته على الرد على من ادعى المساواة بين البيع و الربا و هذا المعنى مقصود أصالة، و دل بعبارته أيضاً على أن البيع حلال و الربا حرام، و هذا الحكم مقصود تبعاً،

فشملت دلالة العبارة : النص و الظاهر، كما شملت المحكم و المفسر، لأن المستفاد منهما مقصود أصالة كالنص. (هذا، و لما كان الظاهر يأتي تبعاً لزم أن يحتوي اللفظ الذي هو نص على الظاهر).

 

ثانياً: دلالة إشارة: (دلالة عقلية)

هي دلالة اللفظ على حكم لم يقصد من ورود النص أصالة و لا تبعاً.

- مثال ذلك: عندما نقول: الاختبارات الأسبوع القادم من الساعة 9 إلى 10 في مركز كذا، في هذا الكلام دلالة إشارة لم تكن مقصودة من كلامنا، حيث دل اللفظ بإشارته على أن باب المركز سيكون مفتوحاً من الساعة 9 إلى 10، فهذا من لوازم المعنى مع عدم وروده في اللفظ.

 

من الأمثلة الشرعية على ذلك: قوله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك} [لقمان: 14]

مع قوله في آية أخرى : {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]،

* فالأية الأولى : دلت بعبارتها على أن مدة الرضاع عامان،

* والثانية : على أن مجموع مدة الحمل مع الرضاع ثلاثون شهراً،

لكن دلت الآيتان بمجموعهما بدلالة الإشارة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، لأننا إذا أنقصنا مدة الرضاع (التي هي 24 شهراً) من مجموع مدة الحمل مع الرضاع (التي هي 30 شهراً) لكان الناتج ستة أشهر، و هذا الحكم المستفاد ليس مقصوداً من سياق كل من الآيتين لا أصالة و لا تبعاً، بل هذا من لوازم المعنى الذي وردت الآيتان لإفادته.

 

ثالثاً : دلالة نص :

هي دلالة الكلام على ثبوت حكم المنصوص عليه للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم التي تُفهم بمجرد فهم اللغة من غير احتياج إلى نظر أو اجتهاد.

- مثال ذلك: قوله تعالى: " و لا تقل لهما أفٍّ و لا تنهرهما "، فدلت الآية بعبارتها على تحريم قول "أف" للوالدين، و لكن سكتت عن حكم ضربهما، إلا أن المسكوت عنه يشارك المنطوق به في علة تحريم قول "أف" و هي أن هذا من عدم البر بالوالدين و عدم الإحسان إليهما،

فلما شارك الضرب قول الأف في هذه العلة أعطي الحكم نفسه، فكان محرماً، بل العلة فيه موجودة بصورة أشد، فكان محرماً من باب أولى.

 

مثال آخر: الآية التي ورد فيها تحريم أكل أموال اليتامي عدواناً دلت بمنطوقها على ذلك، ودلت بمفهومها على تحريم إحراق أموالهم و كل ما فيه تعدي عليها، لأنه لما اشتركا بالعلة ثبت للمسكوت عنه -و هو إحراق أموالهم- حكم المنطوق به، إذ العلة التعدي على الأموال.

 

مسميات دلالة النص:

- مفهوم الموافقة؛ لأن المسكوت عنه يوافق المنطوق به في حكمه. ( و هو قسمان : مفهوم موافقة مساوٍ، و مفهوم موافقة أولوي؛ مساوٍ : متى ما كان المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به في علته فيساويه في الحكم، أولوي: متى ما كانت العلة موجودة فيه و زيادة – بصورة اشد من المنطوق به - فيكون أولى بالحكم، كما في ضرب الوالدين).

- فحوى الخطاب: أي مقصوده و مرماه.

- القياس الجلي،

ولكن هذا غير مسلّم به، لأن العلة في القياس لا بد في معرفتها من اجتهاد بطرقه، أما في دلالة النص فإن العلة تفهم بمجرد فهم اللغة، و هنا يظهر الفرق بين دلالة النص/ مفهوم الموافقة و القياس، إلا أن الشافعية هم من يجعلون دلالة النص من أنواع القياس، بالإضافة إلى إطلاقهم مسمى مفهوم الموافقة على دلالة النص.

 

في حين أن الحنفية لا يقولون بالمفهوم، فيقولون بالمنطوق فقط، و يعطون للمسكوت عنه حكماً بطرق أخرى (و في مفهوم المخالفة يقولون نقف على البراءة الأصلية إذا لم نجد دليلاً)

 

رابعاً: دلالة الاقتضاء:

الاقتضاء في اللغة: الطلب و الاستدعاء.

دلالة الاقتضاء في الاصطلاح: هي دلالة الكلام على لازم مسكوت عنه يتوقف عليه صدق الكلام أو صحته شرعاً.

هنا الكلام لا يتطلب تقدير محذوف بذاته، و لكن التقدير جاء من أشياء خارجية، فالكلام بذاته لم يدل على المسكوت عنه.

- مثال ذلك: قوله عليه الصلاة و السلام: " رفع عن أمتي الخطأ و النسيان" ، فإن اللفظ دل بعبارته على أن الخطأ و النسيان مرفوعان عن الأمة، أي أنهما غير موجودين فيها، و لكن هذا الحديث يدل على لازم مسكوت عنه لا بد من تقديره حتى يصح الكلام ؛ لأن الخطأ و النسيان غير مرفوعين، إذ هما واقعان بدليل قوله تعالى: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فكان التقدير اقتضاءً: رُفع عن أمتي حكم الخطأ و النسيان.

 

أحكام الدلالات

أولاً: دلالة العبارة أقوى من دلالة الإشارة؛ حيث إن دلالة العبارة تدل على حكم مقصود من ورود النص، في حين أن دلالة الإشارة تدل على حكم غير مقصود.

ثانياً: دلالة الإشارة أقوى من دلالة النص؛ لأن دلالة الإشارة تدل على حكم لازم من لوازم المعنى المستفاد من النص بعبارته و صيغته: أي بلازم الصيغة، أما دلالة النص لا يكتفة باللفظ وحده للدلالة على الحكم إنما يضاف إليه العلة، فلا بد من الأمرين معاً.

ثالثاً: دلالة النص أقوى من دلالة الاقتضاء، لأن دلالة الاقتضاء لا تدل على الحكم بصيغة اللفظ و لا بمفهومه (كما في دلالة النص)، إنما استدعته الضرورة التي يتوقف عليها صدق الكلام أو صحته شرعاً، فكانت دلالة الاقتضاء من أضعف الدلالات.

لماذا يهمنا معرفة أحكام الدلالات؟

يظهر أثر هذا التفوت في قوة الدلالات عند التعارض، فإذا تعارضت آيتان دلالتهما مختلفة في القوة نقدِّم الحكم الثابت بالدلالة الأقوى.

- تعارض دلالة العبارة و دلالة الإشارة:

مثال ذلك: قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى"، هذا اللفظ يدل بعبارته على وجوب القصاص في القتل العمد، و هذا الحكم مقصود من مجيء النص.

و لكن هذه الدلالة يعارضها قوله تعالى: "و من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها"، فإنه يدل بطريق الإشارة على عدم وجوب القصاص في القتل العمد، لأن من لوازم كون جزاء القاتل الخلود في جهنم (و هذا المعنى دل عليه اللفظ بعبارته) و الاقتصار عليه في محل البيان :من لوازمه: الدلالة على حصر العقوبة بالخلود في جهنم ، و هذا يستلزم عدم القصاص في القتل العمد.

و لكن لما كانت دلالة العبارة تدل على حكم مقصود و دلالة الإشارة تدل على حكم غير مقصود، و الذي يدل على مقصود يقدم على ما يدل على حكم غير مقصود، لما كان الأمر كذلك، قدمت دلالة العبارة في هذا التعارض، فوجب القصاص في القتل العمد.

- تعارض دلالة الإشارة و دلالة النص:

(التعارض بين الحكم الثابت بدلالة الإشارة و بين الحكم الثابت بدلالة النص)

مثال ذلك: قوله تعالى: "و من قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة"، دل اللفظ بعبارته على وجوب الكفارة في القتل الخطأ، و يفهم منه بطرق دلالة النص وجوب الكفارة في القتل العمد؛ إذ أن النص دل على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه (الذي هو القتل العمد) لاشتراكهما في علة الحكم، حيث إن الكفارة في القتل الخطأ وجبت للزجر فمن باب أولى أن تجب في القتل العمد (هذا عند من يقول بوجوب الكفارة في القتل العمد).

و لكن دلالة النص هذه معارضة بالدلالة في قوله تعالى:"و من يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم"، حيث أن اللفظ يدل بطريق الإشارة على عدم وجوب قصاص و على عدم وجوب كفارة؛ لأن الجزاء حصل بطريق عبارة هذه الآية بالخلود في جهنم، و الاقتصار في محل البيان يدل على الحصر، و يلزم من ذلك أن يكون هو كل الجزاء، فدل ذلك على عدم وجوب الكفارة في القتل العمد.

في هذه الحالة نقدّم دلالة الإشارة، فلا تجب الكفارة في القتل العمد، لأن دلالة الإشارة أقوى من دلالة النص.

 

أقسام اللفظ باعتبار الخفاء

ينقسم اللفظ – عند الحنفية- باعتبار الخفاء إلى أربعة أقسام:

1- الخفي. 2- المشكل. 3- المجمل. 4- المتشابه.

أولاً: الخفي:

هو اللفظ الذي دل على معناه دلالة فيها خفاء خارج عن الصلة.

أو نقول: هو اللفظ الذي تكون له أفراد كثيرة و لا تتضح دلالته لبعض الأفراد؛ لعارض خارج عن الصيغة.

(فالخفاء هنا في بعض الأفراد الخارجية و يحتاج إلى إدراك).

مثاله: لفظ السارق و السارقة في قوله تعالى: " و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما"، فإن الآية دلت دلالة واضحة على أن السارق (الذي أخذ مال الغير خفية من حرز) تقطع يده، إلا أن لفظ السارق له أفراد كثيرة ، فلفظ السارق من صيغ العموم له أفراد، و من هذه الأفراد النباش (من ينبش القبور ليسرق أكفان الموتى) و مثله النشال، هل هو فرد من أفراد السارقين الذين يدخلون بعموم الآية؟ فالخفاء هنا وقع في الخارج في التطبيق على بعض الأفراد.

ثانياً: المشكل:

هو اللفظ الذي خفي المعنى المراد منه بحيث لا يمكن معرفة هذا المعنى إلا بالبحث و التأمل فيما يحيط به من القرائن.

و الخفاء في المشكل يكون في نفس اللفظ، كالألفاظ المشتركة التي لها أكثر من معنى.

مثاله: قوله تعالى: " و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فإن "قروء" فيها خفاء بحيث لا يمكن إزالته و من ثم معرفة المراد منه هل هو الحيض أو الطهر إلا بالبحث و التأمل فيما يحيط بهذا اللفظ من قرائن.

فالفقهاء بحثوا عن هذه القرائن و تأملوا فيها، فمنهم من رجع إلى اللغة و قال: إن "ثلاثة" لفظ عدد مؤنث، و المعدود لا بد أن يخالف العدد المفرد في التذكير و التأنيث، فلزم أن يكون المعدود هنا مذكراً، و الذي يناسبه أن يكون المراد بالقرء : الطهر؛ لأن الطهر مذكر.

إلا أنه رُدَّ على هذا بأن لفظ "ثلاثة" لفظ القرآن ، و " قروء" لفظ القرآن، و هذا مستقيم مع اللغة لأن قروء مفردها قرء و هو مذكر، أما الطهر فهو معنى، و الواجب الأخذ بلفظ القرآن، فلا ينظر إلى معنى المعدود.

و من الفقهاء من قال أن الثلاثة عدد، و العدد مفسَّر، دلالته قطعية، فلا بد من ثلاثة كاملة، و لا يمكن تحقيقهما كاملة إلا إذا كان المقصود بالقرء الحيض.

ذلك كان مثالاً للاجتهاد في إزالة الخفاء عن المشكل، و هو هنا خفاء في نفس اللفظ على خلاف الخفي.

مثال آخر: في قوله تعالى: " فامسحوا برؤوسكم"، ما هو المقدار الواجب في مسح الرأس؟ و سبب الإشكال هو حرف الباء، فهل تدل "الباء" هنا على مسح كامل الرأس، أم بعضه كالثلث أم ماذا؟ و هنا أيضاً لا يمكن فهم المراد إلا بالتأمل.

ثالثاً: المجمل:

هو اللفظ الذي لا يفهم المعنى المراد منه إلا ببيان من المجمِل.

(و هنا يتضح الفرق بينه و بين المشكل، فإن الخفاء في المشكل يزال بالقرائن و الاجتهاد.)

مثاله: لفظ الصلاة في قوله تعالى: " و أقيموا الصلاة"، فإن الآية دلت دلالة فيها خفاء على كيفية الصلاة، و هذا كان من قبيل المجمل لأنه لا يمكن معرفة كيفيتها إلا ببيان من المجمِل.

من أسباب الإجمال (بناءً على معنى الإجمال عند الحنفية لا الجمهور):

- النقل من معنى لغوي إلى معنى أراده الشارع، مثل: الصلاة، فإنها في اللغة: الدعاء، و الشارع إنما أراد بها أقوالاً و أفعالاً مخصوصة تفتتح بالتكبير و تختتم بالتسليم.

- غرابة اللفظ، مثل: "هلوعاً" في قوله تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعاً"، و يراد به أنه شديد الحرص قليل الصبر.

رابعاً: المتشابه:

هو اللفظ الذي خفي المعنى المراد منه بحيث لا ترجى معرفته في الدنيا من أحد.

مثاله: الحروف المقطعة التي في أوائل السور.

 

بيان مسلك الجمهور (عدا الحنفية) في استنباط الأحكام من النصوص

إن استنباط المعاني و الأحكام الشرعية و استخراجها من النصوص يكون على أسس و مناهج و ضعها العلماء لذلك الاستنباط، و لكن هذه المسالك منها ما كان خاصاً بالحنفية كما سبق، و منها ما سلكه الجمهور دون الحنفية، و سيتضح الفرق بين مناهجهما في طرق دلالة الألفاظ فيما يأتي.

للجمهور مسالك متعددة في كيفية استفادة المعاني و استخراج الأحكام، إلا أنها تجتمع في قسمين:

المنطوق و المفهوم.

وجه انحصارها بهما:

قالوا: المستفاد المستنبط المستخرج من اللفظ نوعان:

1- شيء متلقى من المنطوق المصرّح بذكره، و هذا هو المنطوق.

2- و شيء متلقى من فحوى اللفظ (مسكوت عنه)، و هذا هو المفهوم (المسمى دلالة نص عند الحنفية).

مثال الأول: قوله تعالى: " أحل الله البيع"، فإباحة البيع مستفادة من المنطوق المصرح به.

مثال الثاني: قوله عليه الصلاة و السلام: " مطل الغني ظلم "، فإن مطل الفقير مسكوت عنه و حكمه متلقى من فحوى اللفظ، فإن كلاً من مطل الغني ظلم و مطل الفقير ليس بظلم أحكام إلا أن الأول منطوق و الثاني مفهوم.

أولاً: المنطوق:

النطق لغةً: التكلم بصوت و حروف تعرف بها المعاني.

المنطوق اصطلاحاً: هو ما دل عليه اللفظ في محل النطق.

(ما): المعنى المستفاد من الكلام، ليس الكلام نفسه، فهو ما يستخرج من الألفاظ المصرّح بها، فيكون حكماً للمذكور و حالاً من أحواله.

أما ما يؤخذ من المسكوت عنه فهو المفهوم.

و قد يرد إشكال عند إطلاق "المنطوق"، فإنه قد ينصرف إلى العبارات المنطوق بها، إلا أن هذا الإشكال يزول بمعرفتنا لتعريف المنطوق، فإنه "ما دل" عليه اللفظ في محل النطق، و ليس اللفظ "الدال" نفسه.

مثاله: ما سبق أعلاه في قوله تعالى: " أحل الله البيع".

* أقسام المنطوق:

منطوق صريح، و منطوق غير صريح.

أ- المنطوق الصريح: هو دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له:

- في تمام ما وضع له (دلالة مطابقة)

- في جزء ما وضع له (دلالة تضمن)

- لا في تمام و لا في جزء ما وضع له، و لكن في معنى خارج عن المعنى الذي وضع له (دلالة التزام)

ب- المنطوق غير الصريح: هو دلالة اللفظ على الحكم بطريق الالتزام (بعضهم قصره على دلالة الإشارة، و بعضهم أدخله في المفهوم)

 

ثانياً: المفهوم:

هو دلالة اللفظ على معنى في غير محل النطق.

أو يقال: المعنى المستفاد الذي دل عليه اللفظ المنطوق به في غير محل النطق.

مثاله: ما سبق في قوله عليه الصلاة و السلام: " مطل الغني ظلم"، فإن المسكوت عنه مطل الفقير، و هو ليس بظلم، حيث دل اللفظ بمفهومه على أن مطل الفقير ليس بظلم، و هذا في غير محل النطق.

 

=============

 

منهج الآمدي في تقسيم طرق دلالة الألفاظ (في كيفية استنباط الأحكام من النصوص):

قسم الدلالة إلى قسمين:

- دلالة المنظوم: دلالة اللفظ بصريح صيغته و وضعه.

- دلالة غير المنظوم: دلالة اللفظ لا بصريح صيغته و وضعه، بل باعتبارات أخرى.

و تشمل دلالة المنظوم عنده: الأمر، و النهي، و العام، و الخاص، و المطلق، و المقيد، و المجمل، و المبين، و الظاهر، و النص.

أما دلالة غير المنظوم، فتشمل: دلالة الاقتضاء، و دلالة الإيماء، و دلالة الإشارة، و دلالة المفهوم.

 

================

 

منهج البيضاوي في تقسيم طرق دلالة الألفاظ:

إن الخطاب عند البيضاوي إما أن يدل على الحكم بمنطوقه، أو بمفهومه، و هذا المفهوم يشمل أموراً منها: مفهوم الموافقة و مفهوم المخالفة، فكأنما كان المنطوق و المفهوم عند البيضاوي يقابلا دلالة المنظوم و غير المنظوم عند الآمدي على الترتيب، و لكن البيضاوي جعل المفهوم أحد قسمي الدلالة و كان مفهوم الموافقة و المخالفة مندرجين تحت المفهوم، في حين أن الآمدي جعل المفهوم قسيماً لأفراد القسم الثاني عنده و هو دلالة غير المنظوم.

=============

 

بعد عرض مسالك الجمهور في كيفية دلالة الألفاظ، يبقى توضيح الفرق بينها و بين طريقة الحنفية:

الحنفية جعلوا كيفية الدلالة على أربعة أقسام، في حين أن الجمهور جعلوها على قسمين و قد سبق بيان وجه انحصارها بهما، أما وجه حصر الحنفية لها في أربعة أقسام فهو:

أن دلالة اللفظ على الحكم إما أن تكون ثابتة باللفظ نفسه أو لا، و إن ثبتت باللفظ نفسه إما أن يكون الحكم المستفاد بهذه الدلالة مقصوداً أو لا، فإن ثبتت باللفظ نفسه و كان الحكم المستفاد بها مقصوداً فهي دلالة العبارة، و إلا فدلالة إشارة.

و إما أن تكون الدلالة مفهومة لغةً: فتكون دلالة النص، أو تكون مفهومة عقلاً/شرعاً فتكون دلالة اقتضاء.

نتيجة: المنطوق الصريح عند الجمهور يقابله دلالة العبارة عند الحنفية

المنطوق غير الصريح عند الجمهور يقابله دلالة الإشارة عند الحنفية

المفهوم (مفهوم الموافقة) عند الجمهور يقابله دلالة الاقتضاء، و دلالة النص عند الحنفية، فالحنفية مع أنهم لا يقولون بالمفهوم إلا أنهم يتفقون مع الجمهور في ناحية دلالة اللفظ على المعنى المستفاد أي: في المضمون نفسه، فالخلاف لفظي بينهما في مفهوم الموافقة، إنما الخلاف المعنوي في مفهوم المخالفة، فيعتبرونه الحنفية من الاستدلالات الفاسدة، فلا يستدلون به في كلام الشارع، لأنهم يقولون أننا لم نقف على مفهوم الشارع و قصده، و لكنه حجة بالاتفاق في كلام الناس.




[1]  النَّشَّالُ: الخفيفُ اليد من اللصوص، السارق على غِرَّة في اليقظة

Komentar